فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمجادلة: المخاصمة والمحاجّة.
والظرفية مجازية، أي يجادل جدلًا واقعًا في شأن الله.
ووصف الجدل بأنه بغير علم، أي جدلًا ملتبسًا بمغايرة العلم، وغير العلم هو الجهل، أي جدلًا ناشئا عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء.
واتباع الشيطان: الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عَرض على نظر واستدلال.
وكلمة كل في قوله: {كل شيطان} مستعملة في معنى الكثرة.
كما سيأتي قريبًا عند قوله تعالى: {وعلى كل ضامر} [الحج: 27] في هذه السورة.
وتقدم في تفسير قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} في [سورة البقرة: 145].
والمَرِيد: صفة مُشبهة مِن مَرُد بضم الراء على عمل، إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل، وكأنه مُحول مِن مَرَد بفتح الراء بمعنى مَرَن إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية، فالمريد صفة مشبهة، أي العاتي في الشيطنة.
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}.
جملة {كتب عليه أنه من تولاه} إلى آخرها صفة ثانية لـ: {شيطان مريد} [الحج: 3]، فالضمير المجرور عائد إلى {شيطان} وكذلك الضمائر في {أنه من تولاه فأنه}.
وأما الضميران البارزان في قوله: {يضله ويهديه إلى عذاب السعير} فعائدان إلى مَن الموصولة، أي يضل الشيطان مُتَوَليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير.
واتفقت القراءات العشر على قراءة {كُتب} بضم الكاف على أنه مبني للنائب.
واتفقت أيضًا على فتح الهمزتين من قوله تعالى: {أنه من تولاه فأنه يضله}.
والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير، فأطلق على لزوم ذلك فعل {كتب عليه} أي وجب عليه، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة.
قال الحارث بن حِلّزة:
وهل يَنْقُضُ ما في المهارق الأهْوَاءُ

والضمير في {أنه} عائد إلى {شيطان} [الحج: 3] وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل {كُتب} إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة، والمصدران المنسبكان من قوله: {أنه من تولاه} وقوله: {فأنه يضله} نائب فعل {كتب} ومفرع عليه بفاء الجَزاء، أي كتب عليه إضلال من تولاه.
والتولي: اتّخاذ ولي، أي نصير، أي من استنصر به.
و مَن موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابِت لا على التعليق بالشرط.
وهي مبتدأ ثان، والضمير المستتر في قوله: {تولاه} عائد إلى مَن الموصولة.
والضمير المنصوب البارز عائد إلى {شيطان} [الحج: 3]، أي أن الذي يتخذ الشيطان وليًّا فذلك الشيطان يضله.
والفاء في قوله: {فأنه يضله} داخلة على الجملة الواقعة خبرًا عن من الموصولة تشبيهًا لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشَبَه الموصول بالشرط قصدًا لتقوية الإخبار.
والمصدر المنسبك من قوله: {فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبرًا عن مَن الموصولة.
والتقدير: فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير.
وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلَي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ.
والتقدير: ثابتان.
ويجوز أن تجعل الفاء في قوله: {فأنه يضله} فاء تفريع ويجعلَ ما بعدها معطوفًا على {من تولاه} ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع.
والتقدير: كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتولّيه وترتب إيصاله متوليَه إلى عذاب السعير.
هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات.
واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في [سورة براءة: 63] {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدًا فيها} لأن مقتضى فعل العلم غيرُ مَقتضى فعل كُتب.
فلذلك كانت مَن في قوله: {من يحادِدِ} شرطية لا محالة وكان الكلام جاريا على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله: {أنه} ضمير شأن.
ولما كان الضلال مشتهرًا في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل {يضله} لظهور المعنى.
وذُكِر متعلق فعل {يهديه} وهو {إلى عذاب السعير} لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهَدْي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب.
وفي الجمع بين {يضله ويهديه} محسن الطِباق بالمضادة.
وقد عدّ من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} النضر بن الحارث.
وقيل نزلت فيه؛ كان كثير الجدل يقول: الملائكة بنات الله، والقران أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت ترابًا.
وعُد منهم أيضًا أبو جهل، وأبيُّ بن خَلف.
ومن قال: إن المقصود بقوله: {من يجادل} معينًا خص الآية به، ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من الناس بعضًا يجادل في الله بغير علم: أن يخاصم في الله بأن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله وكماله، كالذي يَدَّعي له الأولاد والشركاء، ويقول إن القرأ، أساطير الأولين، ويقول: لا يمكن أن يحيي الله العظام الرميم، كالنضر بن الحارث، والعاص بن وائل، وأبي جهل بن هشام وأمثالهم من كفار مكة الذين جادلوا في الله ذلك الجدال الباطل بغير مستند، من علم عقلي، ولا نقلي، ومع جدالهم في الله ذلك الجدال الباطل يتبعون كل شيطان مريد: أي عاتٍ طاغٍ من شياطين الإنس والجن {كُتِبَ عَلَيْهِ} أي كتب الله عليه كتابه قدر وقضاء {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} أي كل من صار وليًّا له: أي للشيطان المريد المذكور، فإنه يضله عن طريق الجنة إلى النار، وعن طريق الإيمان إلى الكفر، ويهديه إلى عذاب السعير: أي النار الشديدة الوقود.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في الله بغير علم: أي يخاصم فيه بغير مستند من علم بينه في غير هذا الموضع كقوله في هذه السورة الكريمة {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8] {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} [الحج: 9] الآية وقوله تعالى: في لقمان {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قالواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير} [لقمان: 20- 21] فقوله في آية لقمان هذه: {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير}، كقوله في الحج {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الحج: 4] وهذه الآية الكريمة التي هي قوله: {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8] الآية يدخل فيما تضمنته من الوعيد والدم: أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء، بقدر ما فعلوا من ذلك، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومن الآيات الدالة على مجادلة الكفار في الله بغير علم قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هو خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قال مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 77- 78] وقوله في أول النحل {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هو خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [النحل: 4] وقوله تعالى: {وَيُجَادِلُ الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [الكهف: 56] الآية. وقوله تعالى: {والذين يُحَاجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}.
[الشورى: 16] وقوله تعالى: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] وقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حتى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يقول الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأنعام: 25] والآيات بمثل ذلك كثيرة، وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أنه قدر وقضى أن من تولى الشيطان، فإن الشيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} [فاطر: 6] وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير} [لقمان: 21] وقوله تعالى: عن نبيه وخليله إبراهيم: {ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45] وقوله تعالى: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشاء والمنكر} [النور: 21] إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم مخالفتها: أنه من يجادل بعلم على ضوء هدى كتاب منير، كهذا القرآن العظيم، ليحق الحق، ويبطل الباطل بتلك المجادلة الحسنة أن ذلك سائغ محمود لأن مفهوم قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج: 8] أنه إن كان بعلم، فالأمر بخلاف ذلك، وليس في ذلك اتباع للشيطان، ويدل لهذا المفهوم المذكور قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
وقال الفخر الرازي في تفسيره: هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة: هي المراد من قوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} [الزخرف: 58] والمجادلة الحقة هي المراد من قوله: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]اهـ. منه.
وقوله تعالى: في هذه الآية: {عَذَابِ السعير} يعني عذاب النار، فالسعير النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها. والظاهر أن أصل السعير: فعيل، بمعنى: مفعول من قول العرب: سعر النار، يسعرها كمنع يمنع إذا أوقدها، وكذلك سعرها بالتضعيف، وعلى لغة التضعيف والتخفيف القراءتان السبعيتان في قوله: {وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ} [التكوير: 12] فقد قرأه من السبعة نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية حفص: سعرت بتشديد العين وقرأه الباقون بتخفيف العين، ومما جرى من كلام العرب على نحو قراءة نافع، وابن ذكوان، وحفص قول بعض شعراء الحماسة:
قالت له عرسهُ يوما لتُسْمعني ** مهلًا فإِنَّ لنا في أمِّنا أربا

ولو رأتني في نار مُسعَّرة ** ثم استطاعت لزادَت فوقُها حَطبا

إذ لا يخفى أن قوله: مسعرة: اسم مفعول سعرت بالتضعيف، وبما ذكرنا يظهر أن أصل السعير: فعيل بمعنى اسم المفعول: أي النار المسعرة: أي الموقدة إيقادًا شديدًا لأنها بشدة الإيقاد يزداد حرها عياذًا بالله منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، وفي ذلك لغة ثالثة، إلا أنها ليست في القرآن: وهي أسعر النار بصيغة أفعل، بمعنى: أوقدها.
وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} يدل على أن الهدى كما أنه يستعمل في الإرشاد والدلالة على الخير، يستعمل أيضًا في الدلالة على الشر، لأنه قال: {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: 23] وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] الآية لأن الإمام هو من يقتدى به في هديه وإرشاده.
وإطلاق الهدى في الضلال كما ذكرنا أسلوب عربي معروف وكلام البلاغيين في مثل ذلك، بأن فيه استعارة عنادية، وتقسيمهم العنادية إلى تهكمية وتمليحية، معروف كما أشرنا إليه سابقًا وقوله تعالى: {كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} قد أوضحنا معنى الشيطان في سورة الحجر، والمريد والمارد في اللغة العربية: العاتي، تقول: مرد الرجل بالضم يمرد، فهو مارد، ومَريد إذا كان عاتيًّا. والظاهر أن الشيطان في هذه الآية، يشمل كل عات يدعو إلى عذاب السعير، ويضل عن الهدى، سواء كان من شياطين الجن أو الإنس، والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)}.
الجدل: هو المحاورة بين اثنين، يريد كل منهما أنْ يؤيد رأيه ويدحضَ رأْيَ الآخر، ومنه: جَدْل الخوص أو الحبل أي: فَتْله واحدة على الأخرى.
ولو تأملتَ عملية غَزْل الصوف أو القطن لوجدته عبارة عن شعيرات قصيرة لا تتجاوز عدة سنتيمترات، ومع ذلك يصنعون منه حَبْلًا طويلًا، لأنهم يداخلون هذه الشعيرات بعضها في بعض، بحيث يكون طرف الشعرة في منتصف الأخرى، وهكذا يتم فَتْله وغَزْله، فإذا أردتَ تقوية هذه الفَتْلة تجدِلُها مع فتلة أخرى، وهكذا يكون الجدل في الأفكار، فكل صاحب فكرة يحاول انْ يُقوِّي رأيه وحجته؛ ليدحض حجة الآخرين.
فقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله } [الحج: 3] فكيف يكون الجدل في الله تعالى؟
يكون الجدل في الله وجودًا، كالملحد الذي لا يعترف بوجود إله، أو يكون الجدل في الوحدانية، كمن يشرك بالله إلهًا آخر، أو يكون الجدل في إعلام الله بشيء غيبي، كأمر الساعة الذي ينكره البعض ولا يُصدِّقون به، هذا كله جدل في الله.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الحج: 3] إذن: فالجدل في ذاته مُبَاح مشروع، شريطة أن يصدر عن علم وفقه، كما جاء في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125].
فالحق سبحانه لا يمنع الجدل، لَكِن يريده بالطريقة الحسنة والأسلوب اللين، وكما يقولون: النصح ثقيل، فلا تجعله جَدَلًا، ولا ترسله جبلًا، ولا تُخرِج الإنسان مما يألف بما يكره، واقرأ قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [النحل: 125].
وقال سبحانه: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [العنكبوت: 46].
لذلك؛ فالقرآن الكريم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لَوْنًا من الجدل في قوله تعالى: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].